جلس وحيدا يفكر ؛ كادت أفكاره تغرقه في طوفانها . كان الأكثر تفاؤلا بيننا في أعقاب أحداث 25 يناير، كان يشع بهجة وفرحة .. من عينيه تقفز السعادة ويخرج منهما بريق نفاذ يخترق كل من أمامه .
وفي أمسية أدبية كانت ضمن فعاليات المؤتمر الأدبي الماضي تحت عنوان الإبداع والمكان . كان يبدو متوهجا في كل شيء؛ أخذ يلقي بعضا من إبداعاته التي استحسنها الجميع في هذه الليلة . بأعقاب تلك الأمسية اجتمع بعضا من الحضور في حلقة سمر ، وأخذ كل منهم يدلو بما عنده من نوادر ومقتطفات ، وجاء عليه الدور وتساءل :
كيف يكون هناك إبداع بعد اليوم ؟ هل بعد الثورة سيكون إبداع ؟ أم انتهى عصر الإبداع للأبد ؟
عموما حتى وإن عشنا بلا إبداع يكفينا تلك الحالة التي تغمرنا جميعا من الارتياح والثقة والنقاء ، بعد أن تم كشف كل شيء وانقشع ستار الفساد، فكيف يكون فسادا بعد اليوم ؟
فلن يكون هناك فساد مرة أخرى ولن يكون ظلم مرة أخرى .
وكيف سيحدث ذلك وقد نجحت الثورة في رد جبروت هؤلاء الطغاة؛ رغم ضعف كل من قاموا بها إلا أن كلمة الحق جعلتهم أقوياء أمام الطغيان والظلم ..
ربما يكون هناك إبداع جديد يولد في أجواء الفضيلة التي تحيط بنا ،ولما لا وقد خلصتنا الثورة من كل الرذائل والمفاسد ولن يصح بعد اليوم إلا الصحيح ..
كنا نعيش في مستنقع من القبح والزيف ، كانت الأجواء ملوثة وكنا نهرب إلى عالمنا الخاص كنا نحلم ببعض النقاء.
واليوم تحقق لنا ما تمنيناه وأكثر ؛أشعر أننا نعيش في أجواء المدينة الفاضلة أشعر أننا في الجنة فلا أكاذيب ولا تضليل بعد اليوم.
اليوم أستطيع أن أتنفس هواء نقيا بلا شوائب .عليكم جميعا البحث عن عمل آخر، فلا مكان لكم بعد اليوم ،أليس الإبداع قائم على المعاناة وتمني الأفضل؟ هل يوجد أفضل مما نحن فيه ؟ إنه يفوق كل خيال ..
قمت بالرد عليه :
أنت مفرط في تفاؤلك . أخشى عليك منه ؛ فالواقع ليس ورديا كما ترى !!
قال : لا أظن ذلك ينطبق على ثورتنا المجيدة إنها معجزة في كل شيء وسوف ترى ..
وفي زيارتي له أمس وجدته في حال غير الحال ، يبدو أنه كان مذهولا مما حدث ويحدث ، أكد لي عجزه عن الإمساك بالقلم ثم
نظر لي مسترسلا:
” ليس بسبب ما ظننته ، وإنما لتلاحق الأحداث بشكل مليء بالصدمات فمرة تأخذنا الأحداث لسابع سما ومرة تخسف بنا الأرض رغم انقشاع الكابوس الذي خيم علينا في أعقاب 25 يناير وزواله في 30 يونيه ..”
أيقن الآن أنه كان لا ينظر إلا إلى نصف الكوب المليء بعطر الثورة وأريجها الفواح .
وليس هو وحده من وقع في الفخ فالجميع وقع وغرق في نصف الكوب الفارغ.
وكدنا أن نتوه في فراغ لا حدود له عندما سيطرت تلك الجماعة السرطانية على مفاصل الثورة ،وكادت أن تسيطر على الجميع لو لا أن منا من كان لا زالت مناعته قوية ؛ فثار ونقض عن مصر ما جثم فوقها وفوق أنفاسنا جميعا ..
قلت له :
لعلك تلك المرة مفرط في التشاؤم .
إنه الحذر يا عزيزي فلا تجعل أجواء الحذر الشديد تسيطر عليك إلى هذا الحد .
هون عليك وانظر بشكل متوازن للكوب حتى لا تغرق في النصف الذي لا ترغب فيه .