نص كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسي أمام القمة العربية ال29 المنعقدة بمدينة الظهران السعودية:
“بسم الله الرحمن الرحيم”
جلالة الأخ الكريم الملك/ سلمان بن عبد العزيز آل سعود
خادم الحرمين الشريفين وعاهل المملكة العربية السعودية الشقيقة،
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والسعادة،
معالي السيد/ أحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية،
السيدات والسادة،
أود بدايةً أن أعرب عن سعادتي لوجودي معكم اليوم، وأن أعبر عن خالص الشكر والتقدير، لأخي جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، عاهل المملكة الأردنية الهاشمية الشقيقة، لما بذله من جهد دؤوب، خلال ترؤسه لأعمال الدورة الماضية للقمة العربية.. وإنني على ثقة في أن حكمة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، سوف تمنح زخماً كبيراً لآليات العمل العربي المشترك.. وأؤكد أن مصر لن تألو جهداً في سبيل دعم رئاسة القمة والدول الشقيقة، وكذا جهود الأمين العام لجامعة الدول العربية، بهدف تحقيق المصالحالعربية.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
يأتي اجتماعنا اليوم، والأمن القومي العربي يواجه تحديات غير مسبوقة.. فهناك دول عربية تواجه لأول مرة منذ تاريخ تأسيسها، تهديداً وجودياً حقيقياً، ومحاولات ممنهجة لإسقاط مؤسسة الدولة الوطنية، لصالح كيانات طائفية وتنظيمات إرهابية، يمثل مشروعها السياسي ارتداداً حضارياً كاملاً، عن كل ما أنجزته الدول العربية منذ مرحلة التحرر الوطني، وعداءً شاملاً، لكل القيم الإنسانية المشتركة، التي بشرت بها جميع الأديان والرسالات السماوية.
وهناك دول إقليمية، تهدر حقوق الجوار، وتعمل بدأب على إنشاء مناطق نفوذ داخل الدول العربية، وعلى حساب مؤسسات الدولة الوطنية بها.. إننا نجتمع اليوم، وجيش إحدى الدول الإقليمية متواجد على أرض دولتين عربيتين، في حالة احتلال صريح لأراضي دولتين عربيتين شقيقتين.. وهناك اجتماعات تجري لتقرير مصير التسوية، وإنهاء الحرب الأهلية الشرسة، التي أزهقت أرواح ما يزيد عن نصف مليون سوري، بدون مشاركة لأي طرف عربي، وكأن مصير الشعب السوري ومستقبله، بات رهناً بلعبة الأمم، وتوازنات القوى الإقليمية والدولية.
وفي الوقت نفسه، هناك طرف إقليمي آخر، زينت له حالة عدم الاستقرار التي عاشتها المنطقة في السنوات الأخيرة، أن يبني مناطق نفوذ باستغلال قوى محلية تابعة له، داخل أكثر من دولة عربية.. وللأسف الشديد، فإن الصراحة تقتضي القول، بأن هناك مِنَ الأشقاء مَن تورط في التآمر مع هذه الأطراف الإقليمية، وفي دعم وتمويل التنظيمات الطائفية والإرهابية.
وهناك أيضاً الجرح الفلسطيني النازف، وشهداء فلسطين الذين يسقطون كل يوم… قضية العرب المركزية التي توشك على الضياع، بين قرارات دولية غير مفعلة، وصراع الأشقاء أصحاب القضية، الذي يستنزف قواهم ومواردهم الضئيلة، ويفتح الباب أمام مَن يريد تكريس واقع الاحتلال والانقسام كأمر واقع، ويسعى لإنهاء حلم الشعب الفلسطيني الشقيق في الحرية والدولة المستقلة.
لهذا، فإنني لا أبالغ، إن قلت أنّ بلادنا ومنطقتنا تواجه أخطر أزمة، منذ استقلالها وانتهاء حقبة التحرر الوطني… وعلينا جميعاً تقع مسئولية كبرى في وقف هذا التردي في الأوضاع العربية، واستعادة الحد الأدنى من التنسيق المطلوب لإنقاذ الوضع العربي، والوقوف بحزم أمام واحدة من أخطر الهجمات التي عرفتها الدولة الوطنية في المنطقة منذ تأسيسها.
إننا بحاجة اليوم إلى استراتيجية شاملة للأمن القومي العربي، لمواجهة التهديدات الوجودية التي تواجهها الدولة الوطنية في المنطقة العربية، وإعادة تأسيس العلاقة مع دول الجوار العربي على قواعد واضحة، جوهرها احترام استقلال وسيادة وعروبة الدول العربية، والامتناع تماماً عن أي تدخل في الشأن الداخلي للدول العربية.. لقد سبق وطرحت مصر عدداً من المبادرات لبناء استراتيجية فعالة وشاملة للأمن القومي العربي، وتوفير مقومات الدفاع الفعال ضد أي اعتداء أو محاولة للتدخل في الدول العربية..
وإنني على ثقة من أنه بالإمكان التوصل لهذه الاستراتيجية الشاملة، إذا توافرت الإرادة السياسية الجماعية، وصَدَقَ العزم على التعاون لاستعادة زمام المبادرة، بشكل يُفضي إلى وقف الانتهاك المتكرر لسيادة واستقلال بلادٍ عزيزة من دول أمتنا العربية.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
لابد من أن نبدأ بفلسطين.. إن ما قدمه ويقدمه الشعب الفلسطيني من تضحيات على مدار عقود، تضع الضمير الإنساني كله على المحك.. إن قضية نضال الشعب الفلسطيني ليست قضية العرب وحدهم، ولكنها قضية الحق في مواجهة القوة.
لقد كان مشروع القرار الذي شاركت مصر في إعداده، وأقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر الماضي بأغلبية 128 دولة، دليلاً جديداً على أن الحق العربي في القدس، هو حق ثابت وأصيل، غير قابل للتحريف أو المصادرة..
ولازال العرب متمسكين بخيار السلام خياراً استراتيجياً وحيداً، وما زالت المبادرة العربية للسلام هي الإطار الأنسب لإنهاء الاحتلال، وتجاوز عقود من الصراع الذي أتي على الأخضر واليابس، لتبدأ مرحلة من البناء آن لشعوبنا أن تجني ثمارها.
إن على المجتمع الدولي كله مسئولية واضحة لا لبس فيها للوقوف أمام سياسات تكريس الاحتلال، وخلق حقائق جديدة على الأرض، ومحاولة مصادرة الحقوق الفلسطينية في الأراضي المحتلة، وفي القلب منها القدس الشرقية، بل وحتى حرمان الشعب الفلسطيني من أبسط الحقوق والخدمات، عبر الأزمة التي تواجهها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأُنُرْوَا)، نتيجة عدم توفير الأموال الزهيدة التي تحتاجها، لتوفير الحد الأدنى من مقومات البقاء، لخمسة ملايين لاجئ فلسطيني.. وهو أمر يمس بشدة وإجحاف بقطاع واسع من أبناء الشعب الفلسطيني.
إنّ المسئولية تقتضي منا أيضاً أن نقوم بنقد الذات، فما كان للحق الفلسطيني أن يتعرض لأشرس هجمة لمصادرته وإسقاطه، لو لم تكن حالة الانقسام الفلسطيني التي تدخل عقدها الثاني.. وبكل صراحة أقول، لا يجب السماح بأن يكون استمرار الانقسام الفلسطيني، ذريعة لإبقاء واقع الاحتلال.. إن مصر تعمل بكل دأب مع الأشقاء الفلسطينيين، لطي هذه الصفحة الحزينة من تاريخهم، وقد آن الأوان لرأب هذا الصدع غير المبرر، وتجاوز اعتبارات المنافسة الحزبية لصالح إعلاء كلمة الوطن، واستعادة وحدة الصف الفلسطيني، التي هي شرط ضروري لخوض معركة التفاوض والسلام واسترداد الحق.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
أينما نولي أنظارنا في المنطقة، من العراق إلى اليمن، ومن سوريا إلى ليبيا، نجد نفس الخطر الذي يداهم جميع دولنا العربية، خطر التنظيمات الإرهابية والكيانات الطائفية، التي تبتذل الإيمان الديني والتنوع الثقافي في منطقتنا، لتصادر الآفاق الرحبة للتعاون والتسامح والإثراء الثقافي، لصالح خيالها المريض، الذي يعادي الحضارة الإنسانية، ولا يتصور العلاقة بين البشر إلا في صورة صراع دموي ومباراة صفرية.
وإنني أثق أنكم تتابعون جميعاً، الجهود الجبارة التي تقوم بها القوات المسلحة والشرطة المصرية، في معركة الحياة والشرف، معركة سيناء 2018، التي تتواصل نجاحاتها يوماً بعد يوم، لدحر قوى الشر والإرهاب التي لا تهدد مصر وشعبها فحسب، بل تهدد المنطقة والحضارة الإنسانية بأسرها.
إن معركتنا هي جزء أساسي من حرب شاملة، يجب أن نتضافر جميعاً لخوضها ضد التنظيمات الإرهابية أينما وجدت.. هذه الحرب الشاملة يجب أن تشمل كل حلقات العمل الإرهابي، تنظيماً، وتسليحاً، ودعماً سياسياً، وغطاءً أيديولوجياً وإعلامياً.. فمن يحمل السلاح هو فقط الحلقة الأخيرة، من سلسلة إجرامية تشمل من يموله ويسلحه، أو يوفر له ملاذاً آمناً، أو منبراً إعلامياً وتبريراً فكرياً، أو من يستخدمه كمخلب قط، لإنشاء مناطق نفوذ والتدخل في الشؤون الداخلية لدولنا العربية.. ولا مجال لأن نستثني أي حلقة من حلقات هذه السلسلة الإجرامية، فكلهم بدون استثناء شركاء في الإرهاب، وكلهم مسئولون عن الجرائم البشعة التي ترتكبها هذه التنظيمات الإرهابية.
وإنني إذ أعبر عن ارتياحي للقرار المطروح من قمتنا العربية، لتطوير المنظومة العربية الشاملة لمكافحة الإرهاب، فإنني لازلت آمل أن يعود البعض، ممن يصرون على الوقوف في الجانب الخاطئ من التاريخ، إلى جادة الصواب، والتوقف نهائياً عن رعاية الإرهاب ودعمه، بشكل يتناقض كلياً مع تعاليم الإسلام، وأواصر الأخوة والعروبة، بل وقيم الإنسانية والحضارة.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
إن مصر تعرب عن قلقها البالغ نتيجة التصعيد العسكري الراهن على الساحة السورية، لما ينطوي عليه من آثار على سلامة الشعب السوري الشقيق، ويُهدد ما تم التوصل إليه من تفاهمات حول تحديد مناطق خفض التوتر. وتؤكد مصر في هذا الإطار رفضها القاطع لاستخدام أية أسلحة محرمة دولياً علي الأراضي السورية، مطالبةً بإجراء تحقيق دولي شفاف في هذا الشأن وفقاً للآليات والمرجعيات الدولية.
لقد آن الأوان أن نتحرك بشكل جدي، لوضع حد لنزيف الدم السوري، الذي أزهق أرواح أكثر من نصف مليون مواطن سوري، وأدى لتحويل الملايين إلى نازحين ولاجئين، داخل بلادهم وفي الدول العربية والمجاورة.
ولا يكفي هنا أن نقتصر فقط على تكرار التزامنا بمرجعيات الحل السياسي، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وإنما يجب أيضاً أن نوجه رسالة واضحة ولا لبس فيها، بأن سوريا أرض عربية، ولا يجوز أن يتقرر مصيرها وتُعالج مُشكلاتها إلا وفقاً لإرادة الشعب السوري.
لقد كان لجهود الدول العربية، وتحديداً للتعاون المصري السعودي، الدور الأهم في توحيد كافة تنظيمات المعارضة السورية، وإننا نتوقع من الأمم المتحدة أن تتحرك بشكل سريع، وبالتنسيق مع الدول العربية، لبدء مسار لجنة وضع الدستور السوري، كمقدمة لاستئناف جولات المفاوضات.. ولن يكون مقبولاً أن يتم تشكيل هذه اللجنة، أو استئناف المفاوضات بناء على حسابات وتوازنات بين أطراف غير عربية، وإنما يجب أن يكون السوريون أنفسهم والعرب شركاء أساسيين في جهود السلام في سوريا، بوصفهم أصحاب المصلحة الحقيقية، في الحفاظ على وحدة سوريا وسلامتها الإقليمية.
ونفس الأمر يُمكن أن يقال عن ليبيا واليمن الشقيقتين.. إن الحفاظ على وحدة وسلامة وعروبة هذه الدول، وقطع الطريق على أية محاولة من التنظيمات الإرهابية، ورعاتها الإقليميين والدوليين، لتمزيق أوصال هذه الأوطان العربية، هي مسئولية تقع علينا جميعاً.. ولن نسمح بأن تظل هذه الدول الشقيقة، مسارح لصراعات دولية وإقليمية، تمزق شعوبها وتدمر مقدراتهم.
إن مصر مستمرة في دعم كل جهد، للحفاظ على وحدة ليبيا واستعادة مؤسسات الدولة فيها، ولعلكم جميعاً تتابعون الجهود المصرية المستمرة لتوحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا، وخلق ضمانة أمنية تتأسس عليها عملية استعادة الدولة الوطنية في ليبيا والقضاء على الإرهاب.
كما أن مصر ملتزمة، بالعمل على استعادة الاستقرار، وتحقيق الحل السياسي العادل في اليمن، الذي لا يُمكن أن يتأسس إلا على مبادئ احترام وحدة الدولة اليمنية وسيادتها، ورفض منطق الغَلَبَة، ومحاولة فريق سياسي فرض طموحاته التوسعية على عموم اليمنيين بالقوة، والاستقواء بقوى إقليمية وأجنبية.. فلا مستقبل في اليمن إلا بالحل السياسي، ولن يكون الحل السياسي إلا يمنياً خالصاً، لا مكان فيه لأطماع إقليمية أو لمنطق الاستقواء والغَلَبَة بين أبناء الشعب الواحد. إن مصر لن تقبل قيام عناصر يمنية بقصف الأراضي السعودية بالصواريخ الباليستية باعتباره تهديداً للأمن القومي العربي.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
إن التحدياتَ جسامٌ، ولكني واثق من أن العزم الصادق، والجهد المُنَسَّق بين الدول العربية، كفيلٌ بمواجهتها.. إن مصر تُجدد عهدها معكم، بأن تكون في القلب من كل جهد، يهدف لإعادة الحياة إلى عملنا العربي المشترك، ومواجهة الأطماع الإقليمية الخارجية في منطقتنا، فالأمن القومي العربي كلٌ لا يتجزأ. وإن شعوبنا العربية تنتظر من هذه القمة الكثير، فلنكن أهلاً لتطلعاتها وآمالها.
وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه خير أمتنا العربية،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.”